الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {مِنْ هَمَزَاتِ}: جمع هَمْزَة وهي النَّخْسَة والدَّفْعَةُ بيدٍ وغيرِها. والمِهْماز: مِفْعال من ذلك كالمِحْراث من الحَرْث. والهَمَّاز: الذي يَعيبُ الناسَ كأنه يَدْفع بلسانه ويَنْخُس به.قوله: {حتى إِذَا}: في {حتى} هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: {بما يَصِفون}. والثاني: أنها غايةٌ لـ {كاذبون}. وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: {حتى} تتعلق بـ {يَصِفون} أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ. ثم قال: أو على قوله: {وإنهم لكاذِبون}. قلت: قوله: أو على قولِه كذا كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير {حتى} مُعَلَّقَةٌ على {يَصِفُون} أو على قوله: {لَكاذِبون}. وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.الثالث: قال ابنُ عطية: {حتى} في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه. قال الشيخ: فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن {حتى} إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ. وقال أبو البقاء: {حتى} غايةٌ في معنى العطفِ. وقال الشيخ: والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون {حتى} غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر:أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.قوله: {رَبِّ ارجعون} في قوله: {ارْجِعُون} بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر: وقال آخر: قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال: إنه لم يَعْلَمْ أحدًا أجاز للداعي يقول: يا رحيمون. قال: لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد. وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله: {ارْجِعُون} ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] التفاتًا ل أهل المحذوف.الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه: أي: قِفْ قِفْ.{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}.قوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ}: من بابِ إطْلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ. كقوله: «أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةٌ لبيدٍ» يعني قوله: وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا بأوسعِ عبارةٍ في آلِ عمران. و{هو قائلُها} صفةٌ لـ {كلمة}.قوله: {بَرْزَخٌ} البَرْزَخْ: الحاجِزُ بين المتنافِيَيْنِ. وقيل: الحِجابُ بين الشيئين أَنْ يَصِلَ أحدُهما للآخر، وهو بمعنى الأول. وقال الراغب: أصلُه بَرْزَه بالهاءِ فَعُرِّب. وهو في القيامة الحائلُ بين الإِنسانِ وبين المنازلِ. الرفيعة. والبَرْزَخُ قبلَ البعثِ: المَنْعُ بين الإِنسانِ وبين الرَّجْعَةِ التي يتمنَّاها. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}.الاستعاذة- على الحقيقة- تكون بالله من الله كما قال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك» ولكنه- سبحانه- أراد أن نَعْبُدَه بالاستعاذة به من الشيطان، بل مِنْ كلِّ ما هو مُسَلَّطٌ علينا، والحقُّ عندئذٍ يوصل إلينا مضرتنا بجري العادة. وإلاَّ فلو كان بالشيطان من إغواء الخَلْقِ شيءٌ لكان يُمْسِكُ على الهدايةِ نَفْسَه! فَمَنْ عَجَزَ عن أنْ يحفَظَ نَفْسَه كان عن إغواءِ غيرِه أشَدَّ عجزًا، وأنشدوا:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}.إذ أخذ البلاءُ بخناقهم، واستمكن الضُّرُّ من أحوالهم، وعلموا ألا محيصَ ولا محيدَ أخذوا في التضرُّع والاستكانة، ودون ما يرومون خرطُ القتادِ! ويقال لهم هلاّ كان عُشْرُ عشرِ هذا قبلَ هذا؟ ولقد قيل: قلتُ للنفس: إنْ أرَدتِ رجوعًا فارجعي قبل أنْ يُسدَّ الطريق. اهـ. .قال الشنقيطي: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}:لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب والضمير بصيغة الجمع والرب جلّ وعلا واحد.والجواب من ثلاثة أوجه:الأول: وهو أظهرها أن الواو لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى كما في قول الشاعر.وقول الآخر: الوجه الثاني: إن قوله: {ربّ} استغاثة به تعالى وقوله: {ارجعون} خطاب للملائكة ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- لعائشة «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا؟ فيقول إلى دار الهموم والأحزان؟ فيقول بل قدموني إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك فيقول: رب ارجعون».الوجه الثالث: وهو قول المازني أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني.ولا يخلو هذا القول عندي من بُعدٍ والعلم عند الله تعالى. اهـ. .تفسير الآيات (101- 105): قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما غيَّى ذلك بالبعث فتشوفت النفس إلى ما يكون بعده، وكان قد تقدم أن الناس- بعد أن كانوا أمة واحدة في الاجتماع على ربهم- تقطعوا قطعًا، وتحزبوا أحزابًا، وتعاضدوا بحكم ذلك وتناصروا، قال نافيًا لذلك: {فإذا نفخ} أي بأسهل أمر النفخة الثانية وهي نفخة النشور، أو الثالثة للصعق {في الصور} فقاموا من القبور أو من الصعق {فلا أنساب} وهي أعظم الأسباب {بينهم} يذكرونها يتفاخرون بها {يومئذ} لما دهمهم من الأمر وشغلهم من البأس ولحقهم من الدهش ورعبهم من الهول وعلموا من عدم نفعها إلا ما أذن الله فيه، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، وإنما أنسابهم الأعمال الصالحة {ولا يتساءلون} أي في التناصر لأنه انكشف لهم أن لا حكم إلا الله وأنه لا تغني نفس عن نفس شيئًا، فتسبب عن ذلك أنه لا نصرة إلا بالأعمال رحم الله بالتيسير لها ثم رحم بقبولها، فلذلك قال: {فمن ثقلت موازينه} أي بالأعمال المقبولة، ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزانًا يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل على القدرة {فأولئك} أي خاصة، ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد الدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد {هم المفلحون} لأنهم المؤمنون الموصوفون {ومن خفت موازينه} لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان {فأولئك} خاصة {الذين خسروا أنفسهم} لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال؛ ثم علل ذلك أو بينه بقوله: {في جهنم خالدون} وهي دار لا ينفك أسيرها، ولا ينطفىء سعيرها؛ ثم استأنف قوله: {تلفح} أي تغشى بشديد حرها وسمومها ووهجها {وجوههم النار} فتحرقها فما ظنك بغيرها {وهم فيها كالحون} أي متقلصو الشفاه عن الأسنان مع عبوسة الوجوه وتجعدها وتقطبها شغل من هو ممتلىء الباطن كراهية لما دهمه من شدة المعاناة وعظيم المقاساة في دار التجهم، كما ترى الرؤس المشوية، ولا يناقض نفي التساؤل هنا إثباته في غيره لأنه في غير تناصر بل في التلاوم والتعاتب والتخاصم على أن المقامات في ذلك اليوم طويلة وكثيرة، فالمقالات والأحوال لأجل ذلك متباينة وكثيرة، وسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما- في سورة الصافات نحو ذلك.ولما جرت العادة بأن المعذب بالفعل يضم إليه القيل، أجيب من قد يسأل عن ذلك بقوله: {ألم} أي يقال لهم في تأنيبهم وتوبيخهم: ألم {تكن آياتي} التي انتهى عظمها إلى أعلى المراتب بإضافتها إلى.ولما كان مجرد ذكرها كافيًا في الإيمان، نبه على ذلك بالبناء للمفعول: {تتلى عليكم} أي تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئًا فشيئًا.ولما كانت سببًا للإيمان فجعلوها سببًا للكفران، قال: {فكنتم} أي كونًا أنتم عريقون فيه {بها تكذبون} وقدم الظرف للإعلام بمبالغتهم في التكذيب. اهـ.
|